فصل: شهر ذي الحجة سنة 1221:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.شهر شوال سنة 1221:

واستهل شهر شوال بيوم الجمعة ولم يقع في شهر رمضان هذا ارتباك في هلالة أولاً وآخراً، كما حصل فيما تقدم وكذلك حصل به سكون وطمأنينة من عربدة العساكر لولا توالي الطلب والسلف والدعاوى الباطلة في المدينة والأرياف وعسف أرباب المناصب في القرى وعملوا شنكاً للعيد بمدافع كثيرة في الأوقاف الخمسة ثلاثة أيام العيد.
وفيه فتحوا طلب الميري على السنة القابلة وجدوا في التحصيل ووجهوا بالطلب العساكر والقوامة والأتراك بالعصي المفضضة وضيقوا على الملتزمين.
وفي عاشره، أخرج الباشا خياماً ونصب عرضي بناحية شبرا ومنية السيرج والتمس من السيد عمر توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته فضاق صدره وشرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه، وصل حسن باشا طاهر من الجهة القبلية ودخل داره وخرج محمد علي باشا إلى جهة الحلي يريد السفر إلى الألفي، ووصلت عربان الأفي وعساكره إلى بر الجيزة وطلبوا الكلف من البلاد.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه عدى محمد علي باشا إلى بر أنبابة.
وفي يوم الاثنين خامس عشرينه عدى محمد علي باشا وغالب العسكر إلى بولاق وأشاعوا أن الأخصام هربوا من وجوههم، فلم يذهبوا خلفهم بل رجعوا على أثرهم ونهبوا كفر حكيم، وما جاوروه من القرى حتى أخذوا النساء والبنات والصبيان والمواشي ودخلوا بهم إلى بولاق والقاهرة ويبيعونهم فيما بينهم من غير تحاش كأنهم سبايا الكفار.

.شهر القعدة سنة 1221:

واستهل بيوم السبت ووصل الحجاج الطرابلسية وعدوا إلى بر مصر.
وفي يوم الأحد ثانيه، وصلت قوافل الصعيد من ناحية الجبل وبها أحمال كثيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم فركب الباشا ليلاً وكبسهم على حين غفلة ونهبهم وأخذ جمالهم وأحمالهم متاعهم حتى أولاد العربان والنساء والبنات ودخلوا بهم إلى المدينة يقودونهم أسرى في أيديهم ويبيعونهم فيما بينهم، كما فعلوا بأهل كفر حكيم وما حوله.
وفي ذلك اليوم، ضربوا مدافع كثيرة من القلعة بورود أشخاص من الططر ببشارة إلى الباشا وتقريره على السنة الجديدة.
وفي يوم السبت، أداروا كسوة الكعبة والمحمل وركب معها المتسفر عليها من القلزم وهو شخص يقال له محمود آغا الجزيري وركب أمامه الآغا والوالي والمحتسب وطائفة الدلاة وكثير من العسكر.
وفي يوم الاثنين عاشره، وصلت الأخبار بوصول الألفي إلى ناحية الأخصاص وانتشار جيوشه بإقليم الجيزة، وكان الباشا معزوماً ذلك اليوم عند سعودي الحناوي بسوق الزلط وحارة المقس وركب قبيل العصر وذهب إلى بولاق وأمر العساكر بالخروج ولا يتخلف أحد لخامس ساعة من الليل وعدى بمن معه إلى بر أنبابة.
وفي ليلة الأربعاء، وقع بين الألأفي والعسكر معركة وانجاز العسكر وتترسوا بداخل الكفور والبلاد ووصل منهم جرحى إلى البلد واستمر الأمر على ذلك وهم يهابون البروز إلى الميدان وأخصامهم لا يحاربون المتاريس والحيكان.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره، ركب الألفي بجيوشه وتوجه إلى ناحية قناطر شبرامنت، فلما عاينهم الباشا ومن معه مارين ركب بعسكره من ناحية كفر حكيم وما حوله وساروا إلى جهة الجيزة ونصب وطاقه بحريها وباتوا تلك الليلة وعملوا شنكاً في صبحها وهم يشيعون هروب الألفي والحال أنه مر في جيش كثيف وصورة هائلة وقد رتب جنوده وعساكره طوابير وبين يديه النظام الذي رتبه على هيئة عسكر الفرنسيس ومعهم طبول بكيفية خرعت عقولهم والباشا واقف بجيوشه ينظر إليه تارة بعينه وتارة بالنظارة ويقول هذا طهماز الزمان ويتعجب وقال لطائفة الدلاة تقدموا لمحاربته وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال، فلم يجسروا على التقدم لما سبق لهم معه.
وفي يوم الخميس، حضر أشخاص من العرب إلى الباشا وأخبروه بأن الألأفي قد مات يوم وصوله إلى تلك المحطة، وذلك ليلة الأربعاء تاسع عشره، ونزل به خلط دموي فتقايا، ثم مات وذلك بناحية المحرقة بالقرب من دهشور وأن مماليكه اجتمعوا وأمروا عليهم شاهين بك وذلك بإشارة أستاذهم وأن طائفة أولاد علي انفصلوا عنهم ورجعوا إلى بلادهم وآخرين يطلبون الأمان فاشتبه الحال وشاع الخبر وصارت الناس ما بين مصدق ومكذب واستمر الاشتباه والاضطراب أياماً حتى أن الباشا خلع على ذلك المخبر بعد أن تحقق خبره فروة سمور وركب بها وشق من وسط المدينة والناس ما بين مصدق ومكذب ويظنون أن ذلك من مكايده وتحيلاته لأمور يدبرها إلى أن حضر بعض الخدم إلى دوره وأخبروا بحقيقة الحال، كما ذكر فعند ذلك زال الاشتباه وعد ذلك من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي حتى أنه قال في مجلس خاصته الآن ملكت مصر، ولما مات الألفي ارتحلت أجناده ومماليكه وأمراؤه وارتفعوا إلى ناحية قبلي.
ثم أن الباشا أرسل إلى أمرائه مكاتبة يستميلهم ويطلبهم للصلح ويدعوهم للانضمام إليه ويعدهم أن يعطيهم فوق مأمولهم، ونحو ذلك وأرسل تلك المكاتبة صحبة قادري آغا الذي كان طرده الألفي ونفاه وأخذ محمد علي باشا في إليهتمام والركوب واللحوق بهم وفي كل بوم ينادي على العسكر بالمدينة بالخروج وقوي نشاطهم ورفعوا رؤوسهم وسعوا في قضاء أشغالهم وخطفوا الجمال والحمير وحضر الباشا إلى بيته بالأزبكية وبات به ليلة الأحد، وصرح بسفره يوم الخميس وخرج إلى العرضي ثانياً وطلب السلف والمال ومضى الخميس والجمعة، ولم يسافر.
وفي ليلة السبت تاسع عشرينه، نزل به حادر وتحرك عنده خلط وحصل له إسهال وقيء وأشاع الناس موته يوم السبت وتناقلوه وكاد العسكر ينهبون العرضي، ثم حصلت له إفاقة وخرج السيد عمر والمشايخ للسلام عليه يوم الأحد وليهنؤه بجوابات الرسالة من أمراء الألفي أحدها للباشا وعليه ختم شاهين وباقي خشداشينه الكبار وآخر خطاباً لمصطفى كاشف آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي ومن كان كاتبهم بالمعنى السابق يذكرون في جوابهم إن كان سيدهم قد مات وهو شخص واحد فقد خلف رجالاً وأمراء وهم على طريقة أستاذهم في الشجاعة والرأي والتدبير، ونحو ذلك وليس كل مدع تسلم له دعواه ومن أمثال المغاربة ما كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة وذكروا في الجواب أيضاً أنه إن اصطلح من كبرائهم الكائنين بقبلي وهم إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن وباقي أمرائهما كنا مثلهم وإن كان يريد صلحنا دونهم فيعطينا ما كان يطلبه أستاذنا من الأقاليم، ونحو ذلك.

.شهر ذي الحجة سنة 1221:

واستهل بيوم الاثنين فيه ارتحل الباشا بعرضي إلى ساقية مكي بالجيزة متوجهاً لقبلي.
وفيه طلبوا المراكب من كل ناحية وعز وجودها وامتنعت الواردون ومراكب المعاشات والتجارات مع استمرار الطلب للمغارم والسلف، ونحو ذلك وفي منتصفه وردت مكاتبات من وزير الدولة العثمانية وفيها الخبر بوقوع الغزو بين العثماني والموسكوب والأمر بالتيقظ والتحفز وتحصين الثغور، فربما آغاروا على بعضها على حين غفلة، وكذلك وردت أخبار بمعنى ذلك من حاكم أزمير وحاكم رودس وأن الإنكليز معاونون لطائفة الموسكوب لاستمرار عداوتهم مع الفرنساوية لكون الفرانساوية متصادقين مع العثماني والخبر عن مجمل القضية أن بونابارته أمير جيش الفرانساوية وعساكرهم خرجوا في العام الماضي وآغاروا على القرانات والممالك الإفرنجية واستولوا على النيمسة التي هي أعظم القرانات وبينهم وبين الموسكوب مصادقة ونسب فأرسل الموسكوب جنداً كثيفاً مساعدة للنيمساوية مع كبير من قرابة قرانهم فتلاقوا مع بونابارته بعد استيلائه على تخت النيمسة فهزمهم أيضاً وأسر عظماءهم وسار بجيوشه إلى الروسية واستولى على عدة أساكل، وكلما استولى على جهة قرر بها حكامها وشرط عليهم شروطه التي منها معاداة الإنكليز ومنابذتهم، وراسله العثماني وراسله هو أيضاً ورأى العثماني قوة بأسه فصادقه وأرسل إليه من طرفه الجي إلى إسلامبول فدخلها في أبهة عظيمة، وأنزلوه منزلاً حسناً وأرسل صحبته هدايا وقوبل بأعظم منها وكذلك أرسل إلى خصوص بونابارته تحفاً وهدايا وتاجاً من الجوهر، فعند ذلك انتبذ الموسكوب ونقض الهدنة بينه وبين العثماني وطلب المحاربة فخافه العثماني لما يعلمه منه من القوة والكثرة وسعى الإنكليز بينهما بالصلح واجتهد في ذلك حتى أمضاه بشروط قبيحة وشرع أهل الإسكندرية في تحصين قلاعها وأبراجها، وكذلك أبو قير أرسل كتخدا بك من يتقيد ببناء قلعة بالبرلس وحصل لمصر قلق ولغط وغلت الأسعار في البضائع المجلوبة وعملوا جمعيات ببيت كتخدا بك وببيت السيد عمر النقيب واتفقوا على إرسال تلك المراسلات إلى محمد علي باشا بالجهة القبلية صحبة ديوان أفندي.
وفي عشرينه، اجنمعوا بالأزهر لقراءة صحيح البخاري في أجزاء صغار.
وفيه حضر ديوان أفندي بمكاتبات وفيها طلب جماعة من الفقهاء ليسعوا في إجراء الصلح بين الأمراء المصريين وبين الباشا فوقع الاتفاق على تعيين ثلاثة أشخاص وهم بن الشيخ الأمير وابن الشيخ العروسي والسيد محمد الدواخلي فسافروا في يوم الأحد سادس عشرينه ووصلت الأخبار بأن الإنكليز حضروا في اثني عشر مركباً وعبروا بغاز إسلامبول وكانوا محترسين فضربوا عليهم بالمدافع من الجهتين، فلم يكترثوا ولم يفزعوا ولم يتأخروا ولم يصب الضرب إلا مركباً واحدة من الاثني عشر وعمروا ثلمتها في الحال، ولم يزالوا سائرين حتى رسوا ببر إسلامبول فهاج كل أهلها وصرخوا وانزعجوا انزعاجاً عظيماً وأيقنوا بأخذ الإنكليز البلدة ولو أرادوا حرقها لأحرقوها عن آخرها فعند ذلك نزل إليها السيد علي باشا القبطان وهو أخو علي باشا الذي كان أخذ يسيراً مع البرديسي من برج مغيزل برشيد، فتكلم معهم وصالحهم وخرجوا من البغاز سالمين مغبوطين بعفوهم المقدرة وانقضت السنة بحوادثها.

.من مات بها من العلماء والأمراء ممن له ذكر:

مات العمدة الفاضل صدر المدرسين وعمدة المحققين الفقيه الورع الشيخ محمد الخشني الشافعي تخرج على الشيخ عطية الأجهوري وغيره من أشياخ العصر المتقدمين كالحفني والعدوي ومسكنه بخطة السيدة نفيسة ويأتي إلى الأزهر في كل يوم فيقرأ دروسه، ثم يعود إلى داره متقللاً في معيشته منعزلاً عن مخالطة غالب الناس وهو آخر الطبقة وتمرض شهوراً بمنزله الذي بالمشهد النفيسي، وكان دائماً يسأل عن الشيخ سليمان البجيرمي وكان يقول لا أموت حتى يموت البجيرمي لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له أنت آخر أقرانك موتاً، ولم يكن من أقرانه سوى البجيرمي، فلذلك كان يسأل عنه، ثم مات البجيرمي بقرية تسمى مصطيه، ومات هو بعده بنحو ثلاثة أشهر وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس عشرين ذي الحجة، ولم يحضروا بجنازته إلى الأزهر بل صلي عليه بالمشهد النفيسي ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه.
ومات الشيخ الفقيه المحدث خاتمة المحققين وعمدة المدققين بقية السلف وعمدة الخلف الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي الأزهري المنتهي نسبه إلى الشيخ جمعة الزبدي المدفون ببجيرم نسبة إلى زيدة بالقرب من منية بن خصيم وينتهي نسب الشيخ جمعة المذكور إلى سيدي محمدي بن الحنفية ولد ببجيرم قرية من الغربية إحدى وثلاثين ومائة وألف وحضر إلى مصر صغيراً دون البلوغ ورباه قريبه الشيخ موسى البجيرمي وحفظ القرآن ولازم الشيخ المذكور حتى تأهل لطلب العلوم، وحضر على الشيخ الشماوي في الصحيحين وأبي داود الترمذي والشفاء والمواهب وشرح المنهج لشيخ الإسلام وشحي المنهاج لكل من الرملي وابن حجر وحضر دروس الشيخ الحفني وأجازه الملوي والجوهري والمدابغي وأخذ عن الديربي وغيره وحضر أيضاً دروس الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي وشارك كثيراً من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهوري وغيره، وكان إنساناً حسناً حميد الأخلاق منجمعاً عن مخالطة الناس مقبلاً على شأنه وقد انتفع به أناس كثيرون وكف بصره سنيناً وعمر وتجاوز المائة سنة ومن تأليفه بأيدي الطلبة حاشية على المنهج وأخرى على الخطيب وغير ذلك وقبل وفاته سافر إلى مصطيه بالقرب من بجيرم فتوفي بها ليلة الاثنين وقت السحر ثالث عشر رمضان من السن المذكورة، ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه.
ومات الأجل العلامة والفاضل الفهامة فريد عصره، علماً وعملاً ووحيد دهره تفصيلاً وجملاً الشيخ مصطفى العقباوي المالكي نسبة لمنية عقبة بالجيزة حضر إلى الأزهر صغيراً ولازم السيد حسناً البقلي، ثم الشيخ محمد العقاد المالكي، ثم الشيخ محمد عبادة العدوي ملازمة كلية حتى تمهر في مذهبه في المنقولات وفي المعقولات، وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الدردير والشيخ محمد البيلي والشيخ الأمير وغيرهم وتصدر لإلقاء الدروس وانتفع به الطلبة واشتهر فضله وكان إنساناً حسن الأخلاق مقبلاً على الإفادة والاستفادة لا يتداخل فيما لا يعنيه ويأتيه من بلدته ما يكفيه قانعاً متورعاً متواضعاً ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة إلى أن توفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه.
ومات الأجل المعظم المبجل المحقق المدقق المفضل العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ علي النجاري المعروف بالقباني الشافعي مذهباً المكي مولداً المدني أصلاً بن العالم الفاضل الشيخ أحمد تقي الدين بن السيد تقي الدين المنتهي نسبه إلى أبي سعيد الخدري وهو سعد بن مالك بن دينار بن تيم الله بن ثعلبة النجاري أحد بطون الخزرج وينتهي نسب أخواله إلى السيد أحمد الناسك بن عبد الله إدريس بن عبد الله بن الحسن الأنور ابن سيدنا الحسن السبط رضي الله تعالى عنه ولد المترجم بمكة سنة أربع وثلاثين ومائة وقدم إلى مصر مع أبيه وأخيه السيد حسن سنة إحدى وسبعين مائة قليلة وصولهم مرض أخوه المذكور وتوفي صبح ثالث يوم فجزع والده لذلك جزعاً شديداً وتشاءم به وعزم على السفر إلى مكة ثانياً ولم يتيسر له ذلك إلا أواخر شوال من السنة المذكورة وبقي المترجم واشتغل بتحصيل العلوم وشراء الكتب النافعة واستكتابها ومشاركة أشياخ العصر في الإفادة والاستفادة مع مباشرة شغل تجارتهم من بيع الإرساليات التي ترد إليه من أولاد أخيه من جدة ومكة وشراء ما يشترى وإرساله لهم إلى أن تمرض وانقطع ببيته الذي بخطة عابدين قريباً من الأستاذ الحنفي سنة تسع ومائتين وكان عالماً ماهراً وأديباً شاعراً تخرج على والده وعلى غيره بمكة وعلى كثير من أشياخ العصر المتقدمين كالشيخ العشماوي والشيخ الحفني والشيخ العدوي وغيرهم وتخرج في الأدب على والده وعلى الشيخ علي بن تاج الدين المكي وعلى الشيخ عبد الله الأنكاوي وغيرهم وله مؤلفات منها نفح الأكمام على منظومته في علم الكلام، ومنها تقريره على الرملي وهو مجلد ضخم، ومنها شرح بديعيته التي سماها مراقي الفرج في مدح عالي الدرج وله ديوان شع صغير غالبه جيد وكان في مدة انقطاعه لا يشتغل بغير المطالعة وتحصيل الكتب الغريبة وقيد ولده السيد سلامة بأشغال تجارتهم وولده السيد أحمد بملازمته وإسماعه فيما يريد مطالعته وكانت داره في غالب الأوقات لا تخلو من المترددين إلى أن توفي ليلة السابع والعشرين من رجب من السنة المذكورة وعمره سبع وثمانون سنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بمقبرة أخيه بباب الوزير وخلف ولديه المذكورين وكان وجيهاً لطيفاً محبوباً للنفوس ورعاً رحمة الله تعالى عليه.
ومات صاحبنا الأجل المعظم والوجيه المكرم الأمير ذو الفقار البكري نسبة ونسابة وهو مملوك السيد محمد بن علي أفندي البكري الصديقي اشتراه سيده المذكور عام إحدى وسبعين ومائة وألف ورباه وأدبه وأعتقه وزوجه ابنته ونشأ في عز ورفاهية وسيادة وعفة وطيب خيم وعلو همة، ولما توفي سيده اتحد بولده السيد محمد أفندي وهو أخو زوجته اتحاداً كلياً بحيث صارا كالأخوين لا يصبر أحدهما عن الآخر ساعة واحدة وسكنهما واحد في بيتهم الكبير بالأزبكية، ولما توفي السيد محمد أفندي اشتغل المترجم بالسكنى في الدار إلى أن حضر الفرنساوية، فخرج مع من خرج من مصر إلى ناحية الشام ونهبت كتبه وداره، ثم رجع بأمان في أيام الفرنساوية فوجد الدار قد سكنها القرنساوية فاشترى داراً غيرها بخطة عابدين وجدد بها نظامه، ولما حصلت حادثة عسكر الأروام العثمانية مع الأمراء المصريين التي خرج فيها إبراهيم بك والبرديسي وأمراؤهم نهبت داره المذكورة أيضاً فيما نهب فانتقل إلى ناحية الأزهر، ثم سكن بحارة السبع قاعات بالأجرة واقتنى كتباً شراء واستكتاباً وجمع عدة أجزاء متفرقة من تاريخ مرآة الزمان لابن الجوزي وخطط المقريزي وغيرها إلى أن احترمته المنية ومات فجأة يوم الثلاثاء في ثاني عشرين رجب من السنة قبيل الغروب وصلي عليه في صبحها بالأزهر في مشهد حافل ودفن بتربة البكرية ظاهر قبة الإمام الشافعي، وكان إنساناً حسناً محبوباً لجميع الناس وجيه الذات مليح الصفات حسن الفاكهة والمعاشرة متوقد الفطنة صادق الفراسة ساكن الجأش وقوراً أدوباً محتشماً وخلف من بعده السيد محمد المعروف بالغزاوي المرزوق له من ابنة سيده المذكور ولكونه ولد بغزة حين كانوا بالشام أنشأه الله إنشاء صالحاً وبارك فيه.
ومات الأمير الكبير والضرغام الشهير محمد بك الألفي المرادي جلبه بعض التجار إلى مصر في سنة تسع وثمانين ومائة وألف فاشتراه أحمد جاويش المعروف بالمجنون فأقام ببيته أياماً، فلم تعجبه أوضاعه لكونه كان مماجناً سفيهاً ممازجاً فطلب منه بيع نفسه فباعه لسليم آغا الغزاوي المعروف بتمرلنك فأقام عنده شهوراً، ثم أهداه إلى مراد بك فأعطاه نظيره ألف أردب من الغلال فلذلك سمي بالألفي، وكان جميل الصورة فأحبه مراد بك وجعله جوخداره، ثم أعتقه وجعله كاشفاً بالشرقية وعمر داراً بناحية الخطة المعروفة بالشيخ ضلام وأنشأ هناك حماماً بتلك الخطة عرفت به وكان صعب المراس قوي الشكيمة، وكان بجواره علي آغا المعروف بالتوكلي فدخل عليه وتشفع عنده في أمر فقيل رجاءه، ثم نكث فحنق منه واحتد ودخل عليه في داره يغادره ويعاتبه فرد عليه بغلظة فأمر الخدم بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي المعروفة بالنبابيت فتألم لذلك ومات بعد يومين فشكوه إلى أستاذه مراد بك فنفاه إلى بحري فعسف بالبلاد مثل فوة ومطوبس وبارنبال ورشيد وأخذ منهم أرزاً وأمولاً فتشكوا منه إلى أستاذه، وكان يعجبه ذلك وفي أثناء ذلك وقع خلاف بمصر بين الأمراء ونفوا سليمان بك الآغا وأخاه إبراهيم بك ومصطفى بك، كما ذكر ذلك في محله وأرسل إليه مراد بك وأمره أن يتعين على مصطفى بك ويذهب به إلى سكندرية منفياً، ثم يعود هو إلى مصر ففعل ورجع المترجم إلى مصر فعند ذلك قلدوه الصنجقية وذلك في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف واشتهر بالفجور فخافته الناس وتحاموا شدته وسكن أيضاً بدار بناحية قيصون، وذلك عندما اتسعت دائرته وهدم داره القديمة أيضاً ووسعها وأنشأها إنشاء جديداً واشترى المماليك الكثيرة وأمر منهم أمراء وكشافاً فنشؤا على طبيعة أستاذهم في التعدي والعسف والفجور ويخافون من تجبره عليهم والتزم بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوبر وغيرها وتقلد كشوفية شرقية بلبيس، ونزل إليها وكان يغير على ما بتلك الناحية من إقطاعات وغيرها وأخاف جميع عربان تلك الجهة وجميع قبائل الناحية ومنعهم من التعدي والجور على الفلاحين بتلك النواحي حتى خافه الكثير من العربان والقبائل وكانوا يخشونه وصادهم بإشراك منهم وقبض على الكثير من كبرائهم وسحبهم في الجنازير وصادروهم في أموالهم ومواشيهم وفرض عليهم المغارم والجمال، ولم يزل على حالته وسطوته إلى أن حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر فخرج المترجم مع عشيرته إلى ناحية قبلي، ثم رجع معهم في أواخر سنة خمس ومائتين بعد الألف بعد الطاعون الذي مات فيه إسماعيل بك، وذلك بعد إقامتهم بالصعيد زيادة عن أربع سنوات ففي تلك المدة ترزع عقله وانهضمت نفسه وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم ومنازل القمر وأنوائها ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه واقتنى كتباً في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره القديمة ورغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك واقتصر على مماليكه والإقطاعات التي بيده واستمر على ذلك مدة من الزمان، فثقل هذا الأمر على أهل دائرته وبدأ يصغر في أعين خشداشينه ويضعف جانبه وطفقوا يباكتونه وتجاسروا عليه وطمعوا فيما لديه وتطلع أدونهم للترفع عليه، فلم يسهل به ذلك واستعمل الأمر الأوسط وسكن بدار أحمد جاويش المجنون يدرب سعادة وعمر القصر الكبير بمصر القديمة بشاطئ النيل تجاه المقياس وأنشأ أيضاً قصراً فيما بين باب النصر والدمرداش وجعل غالب إقامته فيهما، وأكثر من شراء المماليك وصار يدفع فيهم الأموال الكثيرة للجلابين ويدفع لهم أموالاً مقدماً يشترونها بها وكذلك الجواري حتى اجتمع عنده نحو الألف مملوك خلاف الذي عند كشافه وهم نحو الأربعين كاشفاً الواحد منهم دائرته قدر دائرة صنجق من الأمراء السابقين وكل مدة قليلة يزوج من يختاره من مماليكه لمن تصلح له من الجواري ويجهزهم بالجهاز الفاخر ويسكنهم الدور الواسعة ويعطيهم الفائظ والمناصب وقلد كشوفية الشرقية لبعض مماليكه ترفعاً لنفسه عن ذلك وينزل هو إليهم أيضاً على سبيل التروح وبنى له قصراً خارجر بلبيس وآخر بالدمامين وأخمد شوكة عربان الشرق وجبي منهم الأموال والجمال وأخمد ناموسهم الذي كان يغشى أبدان الفلاحين وأرواحهم وأشعف شوكتهم وأخفى صولتهم، وكان يقيم بناحية الشرق شهوراً صلاصة أو أربعة، ثم يعود إلى مصر واصطنع قصراً من خشب مفصلاً قطعاً ويركب بشناكل وأغربة متينة قوية يحمل على عدة جمال فإذا أراد النزول في محطة تقدم الفراشون وركبوه خارج الصيوان فيصير مجلساً لطيفاً يصعد إليه بثلاث درج مفروش بالطنافس والوسائد يسع ثمانية أشخاص وهو مسقوف وله شبابيك من الأربع جهات تفتح وتغلق بحسب الاختيار وحوله الأسرة من كل جانب وكل ذلك من داخل دهليز الصيوان، وكان له داران بالأزبكية أحداهما كانت لرضوان بك بلغيا والأخرى للسيد أحمد بن عبد السلام فبدا له في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف أن ينشئ داراً عظيمة خلاف ذلك بالأزبكية فاشترى قصر ابن السيد سعودي الذي بخطة الساكن فيما بينه وبين قنطرة الدكة من أحمد آغا شويكار وهدمه وأوقف في شيادته على العمارة كتخدا ذا الفقار أرسله قبل مجيئه من ناحية الشرقية ورسم له صورة وضعه في كاغد كبير فأقام جدرانه وحيطانه وحضر هو في أثناء ذلك فوجده قد أخطأ الرسم فاغتاظ وهدم غالب ذلك وهندسه على مقتضى عقله واجتهد في بنائه وأوقف أربعة من كبار أمرائه على تلك العمارة كل أمير في جهة من جهاته الأربع يحثون الصناع ومعهم أكثر أتباعهم ومماليكهم وعملوا عدة قمن لحرق الأحجار وعمل النورة وكذلك ركب طواحين الجبس لطحنه، وكل ذلك بجانب العمارة وقطعوا الأحجار الكبار ونقلوها في المراكب من طرا إلى جانب العمارة بالأزبكية، ثم نشروها بالمناشير ألواحاً كباراً لتبليط الأرض وعمل الدرج والفسحات وأحضروا لها الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط واشترى بيت حسن كتخدا الشعراوي المطل على بركة الرطلي من عتقائه وهدمه ونقل أخشابه وأنقاضه إلى العمارة وكذن نقلوا إليه أنواع الرخام والأعمدة، ولم يزل الاجتهاد في العمل، تم على المنوال الذي أراده، ولم يجعل له خرجات ولا حرمدانات بارزة عن أصل البناء ولا رواشن بل جعله ساذجاً حرضاً على المتانة وطول البقاء، ثم ركبوا على فرجاته المطلة على البركة والبستان والرجبة الشبابيك الخرط المصنعة وركبوا عليها شرائح الزجاج ووضع به النجف والأشياء والتحف العظيمة التي أهداها إليه الإفرنج وعملوا بقاعة الجلوس السفلى فسقية عظيمة بسلسبيل من الرخام قطعة واحدة ونوفرة كبيرة حولها نوفرات من الصفر يخرج الماء من أفواهها وجعل بها حمامين علوياً وسفلياً وبنوا بدائر حوشه عدة كبيرة من الطباق السكني المماليك وجعله دوراً واحداً ولما تم البناء والبياض والدهان فرشه بأنواع الفرش والوسائد والمساند والستائر المقصبات وجعل خلفه بستاناً عظيماً وأنشأ به جملوناً مستطيلاً متسعاً به دكك وأعمدة وهو من الجهة البحرية ينتهي آخره إلى الدور المتصلة بقنطرة الدكة وأهدى إليه أيضاً الإفرنج فسقية رخام في غاية العظم فيها صورة أسماك مصورة يخرج من أفواهها الماء وجعلها بالبستان ونجز البناء والعمل وسكن بها هو وعياله وحريمه في آخر شهر شعبان من سنة اثنتي عشرة واستهل شهر رمضان فأوقدوا فيها الوقدات والأحمال الممتلئة بالقناديل بدائر الحوش والرحبة الخارجة، وكذلك بقاعة الجلوس أحمال النجف والشموع والصحب والفنيارات الزجاج وازدحمت خيول الأمراء ببابه فأقام على ذلك إلى منتصف شهر رمضان وبداله السفر إلى الشرقية فأبطلوا الوقدة وأطفؤا السرج والشموع، فكان ذلك فالاً فكانت مدة سكناه ستة عشر يوماً بلياليها، وإنما أطنبنا في ذكر ذلك ليعتبر أولو الألباب ولا يجتهد العاقل في تعمير الخراب وفي أثناء غيبته بالشرقية وصلت الفرنساوية إلى الإسكندرية، ثم إلى مصر وجرى ما جرى مما سبق ذكره وذهب مع عشيرته إلى قبلي وعند وصول الفرنساوية إلى بر أنبابة بالبر الغربي وتحاربوا مع المصريين أبلى المترجم وجنده في تلك الواقعة ويعمل معهم مكايد ويصطاد منهم بالمصايد، ولما وصل عرضي الوزير إلى وعدة أسرى وأسد عظيم اصطاده في سروحه فشكره الوزير وخلع عليه الخلع السنية وأقام بعرضيه أياماً، ثم رجع إلى ناحية مصر وذهب إلى الصعيد ثم رجع إلى الشام والفرنساوية يأخذون خبره ويرصدونه في الطرق ناحية الشام ذهب إليه وقابله وأنعم عليه وكان معه رؤساء من الفرنساوية فيزوغ منهم ويكبسهم في غفلاتهم وينال منهم، ولما وصل الوزير وحصل انتقاض الصلح وانحصر المصريون والعثمانيون بداخل المدينة وقع له مع الفرنساوية الوقائع الهائلة، فكان يكر ويفر هو وحسن بك الجداوي ويعمل الحيل والمكايد وقتل من كشافه في تلك الحروب رجال معدودة منهم إسماعيل كاشف المعروف بأبي قطية احترق هو وجنده ببيت أحمد آغا شويكار الذي كان أنشأه برصيف الخشاب وكانت الفرنساوية قد عملوا تحته لغم بارود في أسفل جدرانه، ولم يعلم به أحد، فلما تترس فيه إسماعيل كاشف ومن معه أرسلوا من ألهمه النار فالتهب على من فيه واحترقوا بأجمعهم وتطايروا في الهواء، ولما اصطلح مراد بك مع الفرنساوية لم يوافقه على ذلك واعتزله، ولما اشتد الأمر بين الفريقين وشاطت طبخة العثمانيين ومن تبعهم طفق يسعى بين الفريقين في الصلح ويمشي مع رسل الفرنساوية في دخولهم بين العسكر وخروجهم ليمنع من يتعدى عليهم من أوباش العسكر خوفاً من ازدياد الشر إلى أن تم الصلح وخرج المترجم بلاء حسناً وقتل من كشافه ومماليكه عدة وافرة، ولم يزل مدة إقامة الفرنساوية بمصر ينتقل في الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية مع العثمانية إلى نواحي الشام، ثم رجع إلى جهة الشرقية فيحارب من يصادقه من الفرنسيس ويقتل منهم فإذا جمعوا جيشهم وأتوا لحربه، لم يجدوه ويمر من خلف الجبل ويمر بالحاجز إلى الصعيد فلا يعلم أين ذهب ثم يظهر بالبر الغربي، أو يسير مشرقاً ويعود إلى الشام وهكذا كان دأبه بطول السنة التي تخللت بين الصلحين إلى نظم العثمانية أمرهم وتأونوا بالإنكليز ورجع الوزير على طريق البر وقبطان باشا بصحبة الإنكليز من البحر فحضر المترجم وباقي الأمراء واستقر الجميع بداخل مصر والإنكليز ببر الجيزة وارتحلت الفرنساوية وخلت منهم مصر فعند ذلك قلق المترجم وداخله وسواس وفكر لأنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور، فكان لا يستقر له قرار، ولم يدخل إلى الحريم، ولم يبت بداره إلا ليلتين على سجادة ومخدة في القاعة السفلى، ولم يكن بها حريم. ر المصريون والعثمانيون بداخل المدينة وقع له مع الفرنساوية الوقائع الهائلة، فكان يكر ويفر هو وحسن بك الجداوي ويعمل الحيل والمكايد وقتل من كشافه في تلك الحروب رجال معدودة منهم إسماعيل كاشف المعروف بأبي قطية احترق هو وجنده ببيت أحمد آغا شويكار الذي كان أنشأه برصيف الخشاب وكانت الفرنساوية قد عملوا تحته لغم بارود في أسفل جدرانه، ولم يعلم به أحد، فلما تترس فيه إسماعيل كاشف ومن معه أرسلوا من ألهمه النار فالتهب على من فيه واحترقوا بأجمعهم وتطايروا في الهواء، ولما اصطلح مراد بك مع الفرنساوية لم يوافقه على ذلك واعتزله، ولما اشتد الأمر بين الفريقين وشاطت طبخة العثمانيين ومن تبعهم طفق يسعى بين الفريقين في الصلح ويمشي مع رسل الفرنساوية في دخولهم بين العسكر وخروجهم ليمنع من يتعدى عليهم من أوباش العسكر خوفاً من ازدياد الشر إلى أن تم الصلح وخرج المترجم بلاء حسناً وقتل من كشافه ومماليكه عدة وافرة، ولم يزل مدة إقامة الفرنساوية بمصر ينتقل في الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية مع العثمانية إلى نواحي الشام، ثم رجع إلى جهة الشرقية فيحارب من يصادقه من الفرنسيس ويقتل منهم فإذا جمعوا جيشهم وأتوا لحربه، لم يجدوه ويمر من خلف الجبل ويمر بالحاجز إلى الصعيد فلا يعلم أين ذهب ثم يظهر بالبر الغربي، أو يسير مشرقاً ويعود إلى الشام وهكذا كان دأبه بطول السنة التي تخللت بين الصلحين إلى نظم العثمانية أمرهم وتأونوا بالإنكليز ورجع الوزير على طريق البر وقبطان باشا بصحبة الإنكليز من البحر فحضر المترجم وباقي الأمراء واستقر الجميع بداخل مصر والإنكليز ببر الجيزة وارتحلت الفرنساوية وخلت منهم مصر فعند ذلك قلق المترجم وداخله وسواس وفكر لأنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور، فكان لا يستقر له قرار، ولم يدخل إلى الحريم، ولم يبت بداره إلا ليلتين على سجادة ومخدة في القاعة السفلى، ولم يكن بها حريم.
يقول الفقير، ذهبت إليه مرة في ظرف اليومين فوجدته جالساً على السجادة فجلست معه ساعة فدخل عليه بعض أمرائه يستأذنه في زواج إحدى زوجات من مات من خشداشينه فنتر فيه وشتمه وطرده وقال لي انظر إلى عقول هؤلاء المغفلين يطنون أنهم استقروا بمصر ويتزوجوا ويتأهلوا مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن، ولما أطلق الوزير لإبراهيم بك الكبير التصرف وألبسه خلعة وجعله شيخ البلد كعادته وأن أوراق التصرفات في الإقطاعات والأطيان وغيرها تكون بختمه وعلامته اغتر هو وباقي الأمراء بذلك، وازدحم الديوان ببيت إبراهيم بك المرادي وعثمان بك حسن والبرديسي وتناقلوا في الحديث فذكروا ملاطفة الوزير ومحبته لهم وإقامته لناموسهم فقال المترجم لا تغتروا بذلك فإنما هي حيل ومكايد وكأنها تروج عليكم فانظروا في أمركم وتفطنوا لما عساه يحصل فإن سوء الظن الحزم فقالوا له وما الذي يكون قال إن هؤلاء العثمانيين لهم السنين العديدة والأزمان المديدة يتمنون نفوذ أحكامهم وتملكهم لهذا الإقليم ومضت الأحقاب وأمراء مصر قاهرون لهم وغالبون عليهم ليس لهم معهم إلا مجرد الطاعة الظاهرة وخصوصاً دولتنا الأخيرة وما كنا نفعله معهم من إليهانة ومنع الخزينة وعدم الامتثال لأوامرهم، وكل ذلك مكمون في نفوسهم زيادة على ما جبلوا عليه من الطمع والخيانة والشره، وقد ولجوا البلاد الآن وملكوها على هذه الصورة وتأمروا علينا فلا يهون بهم أن يتركوها لنا، كما كانت بأيدينا ويرجعوا إلى بلادهم بعدما ذاقوا حلاوتها فدبروا رأيكم وتيقظوا من غفلتكم فلما سمعوا منه ذلك صادق عليه بعضهم وقال بعضهم هذا من وساوسك وقال آخر هذا لا يكون بعد ما كنا نقاتل معهم ثلاث سنوات وأشهراً بأموالنا وأنفسنا وهم لا يعرفون طرائق البلاد ولا سياستها فلا غنى لهم عنا وقال آخر غير ذلك، ثم قالوا له ما رأيك الذي تراه فقال الرأي عندي إن قبلتموه أن نعدي بأجمعنا إلى بر الجيزة وننصب خيامنا هناك ونجعل الإنكليز واسطة بيننا وبين الوزير والقبطان ونتمم الشروط التي نرتاح، نحن وهم عليها بكفالة الإنكليز ولا نرجع إلى البر الشرقي ولا ندخل مصر حتى يخرجوا منها ويرجعوا إلى بلادهم ويبقى منهم من يبقى مثل من يقلدونه الولاية والدفتردارية ونحو ذلك، وكان ذلك هو الرأي ووافق عليه البعض ولم يوافق البعض الآخر، وقال كيف ننابذهم ولم يظهر لنا منهم خيانة ونذهب إلى الإنكليز وهم أعداء الدين فيحكم العلماء بردتنا وخيانتنا لدولة الإسلام على أنهم إن قصدوا بنا شيئاً قمنا بأجمعنا عليهم وفينا ولله الحمد الكفاية وعند ذلك تتوسط بيننا وبينهم الإنكليز فنكون لنا المندوحة والعذر فقال المترجم أما الاستنكاف من الالتجاء للإنكليز فإن القوم لم يستنكفوا من ذلك واستعانوا بهم ولولا مساعدتهم لما أدركوا هذا المحصول ولا قدروا على إخراج الفرنساوية من البلاد وقد شاهدنا ما حصل في العام الماضي لما حضروا بدون الإنكليز على أن هذا قياس مع الفارق فإن تلك مساعدة حرب، وأما هذه فهي وساطة مصلحة لا غير، وأما انتظار حصول المنابذة فقد لا يمكن التدارك بعد الوقوع لأمور والرأي لكم فسكتوا وتفرقوا على كتمان ما دار بينهم، ولما لم يوافقوا المترجم على ما أشار به عليهم أخذ يدبر في خلاص نفسه فانضم إلى محمود أفندي رئيس الكتاب لقربه من الوزير وقبوله عنده وأوهمه النصيحة للوزير بتحصيل مقادير عظيمة من الأموال من جهة الصعيد إن قلده الوزير إمارة الصعيد فإنه يجمع له أموالاً جمة من تركات الأغنياء الذين ماتوا بالطاعون في العام الماضي وخلافه، ولم يكن لهم ورثة وغير ذلك من الجهات التي لا يحيط بها خلافه والمال والغلال الميرية، فلما عرف الرئيس الوزير بذلك، لم يكن بأسرع من إجابته لوجهين الأول طمعاً في تحصيل المال والثاني لتفريق جمعهم فإنهم كانوا يحسبون حسابه دون باقي الجماعة لكثرة جيشه وشدة احترازه فإنه كان إذا ذهب عند الوزير لا يذهب في الغالب إلا وحوله جميع جنوده ومماليكه وعندما أجاب الوزير إلى سفره كتب له فرماناً بإمارة الجهة القبلية وأطلق له الإذن ورخص له في جميع ما يؤدي إليه اجتهاده من غير معارض وتمم الرئيس القصد وفي الوقت حضر المترجم فأخذ المرسوم ولبس الخلعة بنفسه وودع الوزير والرئيس وركب في الوقت والساعة وخرج مسافراً وجعل رئيس أفندي وكيلاً عنه وسفيراً بينه وبين الوزير بعدما أسكنه في داره، ولم يشعر بذلك أحد، ولم ير للوزير وجهاً بعد ذلك وعندما أشيع ذلك حضر إلى الوزير اعتراض عليه في هذه الغفلة وأشار عليه بنقض ذلك فأرسل يستدعيه لأمر تذكره على ظن تأخره، فلم يدركوه إلا وقد قطع مسافة بعيدة ورجعوا على غير طائل وذهب هو إلى أسيوط وشرع في جبي الأموال وأرسل للوزير دفعة من المال وأغناماً وعبيداً طواشية وغلالاً ثم لم يمض على ذلك إلا نحو ثلاثة شهور وسافر طائفة من الإنكليز إلى سكندرية، وكذلك حسين باشا القبطان ونصبوا للمصريين الفخاخ وأرسل القبطان يطلب طائفة منهم فأوقع بهم ما أوقع وقبض الوزير على من بمصر من الأمراء وحبسهم وجرى ما هو مسطور في محله وعينوا على المترجم طاهر باشا بعساكر وحصلت المفاقمة وقتل من قتل والتجأ من بقي إلى الإنكليز، ولم يندمل الجرح بعد تقريحه وذهب الجميع إلى الناحية القبلية وأرسلوا لهم التجاريد وتصدى المترجم لحروبهم، ثم حضر إلى ناحية بحري، ونزل بظاهر الجيزة وسار إلى ناحية البحيرة بعد حروب ووقائع فاجتهد محمد باشا خسروا في إخراج تجريدة عظيمة وساري عسكرها كتخدا وهو يوسف كتخدا بك وهي التجريدة التس سماهاه العوام تجريدة الحمير لأنهم جمعوا من جملة ذلك حمير الحمارة والتراسين وحمير اللكاف والسقائين وعملوا على أهل بولاق بألف حمار وكذلك مصر ومصر القديمة وطفقوا يخطفون حمير الناس ويكبسون البيوت ويأخذون ما يجدونه، وكان يأتي بعض معاكيس العسكر عند الدور ويضع أحدهم فمه عند الباب ويقول زر فينهق الحمار فيأخذونه، فلما تم مرادهم من جمع الحمير اللازمة لهم سافروا إلى ناحية البحيرة فكانت بينهم واقعة عظيمة بمرأى من الإنكليز وكانت الغلبة له على العسكر وأخذ منهم جملة أسرى وانهزم الباقون شر هزيمة وحضروا إلى مصر في أسوأ حال وهذه الكسرة كانت سبباً لحصول الوحشة بين الباشا والعسكر فإنه غضب عليهم وأمرهم بالخروج من مصر فطلبوا علائفهم فقال بأي شيء تستحقون العلائف ولم يخرج من أيديكم شيء فامتنعوا من الخروج وكان المشار إليه فيهم محمد علي سرششمه فأراد الباشا اصطياده فلم يتمكن منه لشدة احتراسه فحاربه فوقع له ما ذكر في محله، وخرج الباشا هارباً إلى دمياط ومن ذلك الوقت ظهر اسم محمد علي، ولم يزل ينمو ذكره بعد ذلك وأما المترجم فإنه بعد كسرته للعسكر ذهب ناحية دمنهور وذهبت كشافه وأمراؤه إلى المنوفية والغربية والدقهلية وطلبوا منهم المال والكلف، ثم رجعوا إلى البحيرة ثم بعد هذه الوقائع سافر المترجم مع الإنكليز إلى بلادهم واختار من مماليكه خمسة عشر شخصاً أخذهم صحبته وأقام عوضه أحد مماليكه المسمى بشتك بك وسمي الألفي الصغير وأمره على مماليكه وأمرائه وأمرهم بطاعته وأوصاه وصايا وسافر وغاب سنة وشهراً وبعض أيام لأنه سافر في منتصف شهر شوال سنة سبع عشرة وحضر في أول شهر القعدة سنة ثمان عشرة وجرى في مدة غيابه من الحوادث التي تقدم من ذكرها ما يغني عن إعادتها من خروج محمد باشا خسروا وتولية طاهر باشا ثم قتله ودخول الأمراء المصريين وتحكمهم بمصر سنة ثمان عشرة وتأمير صناجق من أتباع المترجم، وما جرى بها من الوقائع بتقدير الله تعالى البارز بتدبير محمد علي ونفاقه وحيله فإنه سعى أولاً في نقض دوله من مخدومه محمد باشا خسروا بتواطئه مع طاهر باشا وخازنداره محمد باشا المحافظ للقلعة ثم الإغراء على طاهر باشا حتى قتل، ثم معاوتنه للأمراء المصريين ودخولهم وتملكهم وإظهار المساعدة الكلية لهم ومصادقتهم وخدمتهم ومعاونتهم والرمح في غفلتهم وخصوصاً عثمان بك البرديسي فإنه كان ممخرقاً غشوماً يحب الترؤس فأظهر له الصداقة والمؤاخاة والمصافاة حتى قضى منهم أغراضه من قتل الدفتردار والكتخدا وعلي باشا الطرابلسي ومحاربة محمد باشا وأخذه أسيراً من دمياط وأخيه السيد علي القبطان برشيد ونسبة جميع هذه الأفعال والقبائح إليهم، فلما انقضى ذلك كله لم يبق إلا الألفي وجماعته والبرديسي الذي هو خشداشه يحقد عليه ويغار منه ويعلم أنه إذا حضر لا يبقى له معه ذكر وتخمد أنفاسه فيتناجيا ويتسارا في أمر المترجم ويتذاكرا تعاظم وكيله وخشداشينه ونقضهم عليه ما يبرمونه مع غياب أستاذهم فكيف بهم إذا حضر ويوهمه المساعدة والمعاضدة ويكون خادماً له وعساكره جنده إلى أن حضر المترجم فأوقعا به ما تقدم ذكره ونجا بنفسه واختفى عند عشيبة البدوي بالوادي، فلما خلا الجو من الألفي وجماعته فأوقع محمد علي عند ذلك بالبرديسي وعشيرته ما أوقع وظهر بعد ذلك المترجم من اختفائه وذهب إلى ناحية قبلي هو ومملوكه صالح بك واجتمعت عليه أمراؤه وأجناده واستفحل أمره واصطلح مع عشيرته والبرديسي على ما في نفوسهما وما زال منجمعاً عن مخالطتهم وجرى ما جرى من مجيئهم حوالي مصر وحروبهم مع العساكر في أيام خورشيد أحمد باشا وانفصالهم عنها بدون طائل لتفاشلهم واختلاف آرائهم وفساد تدبيرهم ورجعوا إلى ناحية قبلي ثم عادوا إلى ناحية بحري بعد حروب ووقائع مع حسن باشا ومحمد علي وعساكرهم، ثم لما حصلت المفاقمة بينهما وبين خورشيد أحمد باشا وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا وهاجت الحروب بين الباشا وأهل البلدة كما هو مذكور كانت الأمراء المصريون بناحية التبين والمترجم منعزل عنهم بناحية الطرانة والسيد عمر يراسله ويعده ويذكر له بأن هذا القيام من أجلك وإخراج هذه الأوباش ويعود الأمر إليكم، كما كان وأنت المعني بذلك لظننا فيك الخير والصلاح والعدل فيصدق هذا القول ويساعده بإرسال المال ليصرفه في مصالح المقاتلين والمحاربين ومحمد علي يداهن السيد عمر سراً ويتملق إليه ويأتيه ويراسله ويأتي إليه في أواخر الليل وفي أوساطه متردداً عليه في غالب أوقاته حتى تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم ولا يفعل أمراً إلا بمشورته شورة العلماء وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه وهم قادرون على ذلك، كما يفعلون الآن فيتورط المخاطب بذلك القول ويظن صحته وأن كل الوقائع زلابية وكل ذلك سراً لم يشعر به خلافهم إلى أن عقد السيد عمر مجلساً عند محمد علي وأحضر المشايخ والأعيان وذكر لهم أن هذا الأمر وهذه الحروب ما دامت على هذه الحالة لا تزداد إلا فشلاً ولا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية فانظروا من تجدونه وتختارونه لهذا الأمر ليكون قائم مقام حتى يتعين من طرف الدولة من يتعين فقال الجميع الرأي ما تراه فأشار إلى محمد علي فأظهر التمنع وقال أنا لا أصلح لذلك ولست من الوزراء ولا من الأمراء ولا من أكابر الدولة فقالوا جميعاً قد اخترناك لذلك برأي الجميع والكافة والعبرة ورضا أهل البلاد وفي الحال أحضروا فروة ألبسوها له وباركوا له وهنؤه وجهروا بخلع خورشيد أحمد باشا من الولاية وإقامة المذكور في النيابة حتى يأتي المتولي أو يأتي له تقرير بالولاية ونودي في المدينة بعزل الباشا وإقامة محمد علي في النيابة إلى أن كان ما هو مسطور قبل ذلك في محله، فلما بلغ المترجم ذلك وكان ببر الجيزة ويراسل السيد عمر مكرم والمشايخ فانقبض خاطره ورجع إلى البحيرة وأراد دمنهور فامتنع عليه أهلها وحاربوه وحاربهم ولم ينل منهم غرضاً والسيد عمر يقويهم ويمدهم ويرسل إليهم البارود وغيره من الاحتياجات وظهر للمترجم تلاعب السيد عمر مكرم معه وكأنه كان يقويه على نفسه فقبض على السفير الذي كان بينهما وحبسه وضربه وأراد قتله ثم أطلقه ثم عاد إلى بر الجيزة وسكنت الفتنة واستقر الأمر لمحمد علي باشا وحضر قبطان باشا إلى ساحل أبي قير ووصل سلحداره إلى مصر وأنزل أحمد باشا المخلوع عن الولاية من القلعة إلى بولاق ليسافر ومنع محمد علي من الذهاب والمجيء إلى المصريين وأوقف أشخاصاً براً وبحراً يرصدون من يأتي من قبلهم أو يذهب إليهم بشيء من متاع وملبوس وسلاح وغير ذلك ومن عثروا عليه بشيء قبضوا عليه وأخذوا ما معه وعاقبوه فامتنع الباعة والمتسببون وغيرهم من الذهاب إليهم بشيء مطلقاً فضاق خناق المترجم بأن أرسل محمد كتخداه يطلب الصلح مع الباشا فانسر لذلك وفرح واعتقد صحة ذلك وأنعم على الكتخدا وعبي هدية جليلة لمخدومه من ملابس وفراوى وأسلحة وخيام ونقود وغير ذلك وعندها قضى الكتخدا أشغاله من مطلوبات مخدومه واحتياجاته له ولأتباعه وأمرائه ووسق مراكب وذهب بها جهاراً من غير أن يتعرض له أحد وذهب صحبته السلحدار وموسى البارودي، ثم عاد الكتخدا ثانياً وصحبته السلحدار وموسى البارودي وذكروا أنه يطلب كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومائتي بلد من الغربية والمنوفية والدقهلية يستغل فائظها ويجعل إقامته بالجيزة ويكوت تحت الطاعة، فلم يرض الباشا بذلك وقال أننا صالحنا باقي الأمراء وأعطيناهم من حدود جرجا بالشروط التي شرطناها عليهم وهو داخل في ضمنهم فرجع محمد كتخدا له بالجواب بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته ولوازمه من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك وتمت حيلته وقضى أغراضه وذهب إلى الفيوم وتحارب جنده مع جند ياسين بك وانخدل فيها ياسين بك، ثم عاد شاهين بك الألفي بجند كثير بعد شهور إلى بر الجيزة وخرج محمد علي باشا لمحاربته بنفسه فكانت له الغلبة وقتل في هذه الوقعة على كاشف الذي كان تزوج بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت حسن بك شنن رآه الأخصام منجملاً فظنوه الباشا فأحاطوا به وأخذوه أسيراً ثم قتلوه ورجع الباشا إلى بر مصر واجتهد في تشهيل تجريدة أخرى وكل ذلك مع طول المدى. ويجعل إقامته بالجيزة ويكوت تحت الطاعة، فلم يرض الباشا بذلك وقال أننا صالحنا باقي الأمراء وأعطيناهم من حدود جرجا بالشروط التي شرطناها عليهم وهو داخل في ضمنهم فرجع محمد كتخدا له بالجواب بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته ولوازمه من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك وتمت حيلته وقضى أغراضه وذهب إلى الفيوم وتحارب جنده مع جند ياسين بك وانخدل فيها ياسين بك، ثم عاد شاهين بك الألفي بجند كثير بعد شهور إلى بر الجيزة وخرج محمد علي باشا لمحاربته بنفسه فكانت له الغلبة وقتل في هذه الوقعة على كاشف الذي كان تزوج بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت حسن بك شنن رآه الأخصام منجملاً فظنوه الباشا فأحاطوا به وأخذوه أسيراً ثم قتلوه ورجع الباشا إلى بر مصر واجتهد في تشهيل تجريدة أخرى وكل ذلك مع طول المدى.
وفي أثناء ذلك، مات بشنك بك المعروف بالألفي الصغير مبطوناً بناحية قبلي، ثم أن المترجم خرج من الفيوم في أوائل المحرم من السنة المذكورة، وكان حسن باشا طاهر بناحية جزيرة الهواء بمن معه من العساكر فكانت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها حسن باشا إلى الرقق وأدركه أخوه عابدين بك فأقام معه الرفق، كما تقدم وحضر الألفي إلى بر الجيزة وأنبابة وخرجت إليهم العساكر فكانت بينهم واقعة بسوق الغنم ظهر عليهم فيها أيضاً، ثم سار مبحراً وعدى من عسكره وجنده جملة إلى السبكية فأخذوا منهاما أخذوه وعادوا إلى أستاذهم بالطرانة، ثم أنه انتقل راحلاً إلى البحيرة وحرب دمنهور ومحاصرتها وكانوا قد حصنوها غاية التحصين، فلم يقدر عليها فعاد إلى ناحية وردان، ثم رجع إلى حوش ابن عيسى لأنه بلغه وصول مراكب وبها أمين بك تابعه وعدة عساكر من النظام الجديد وأشخاص من الإنكليز لأنه كان مع ما هو فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والإنكليز وأرسل بالخصوص أمين بك إلى الإنكليز فسعوا مع الدولة بمساعدته، وحضروا إليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش بن عيسى شنكاً وأرسلهم مع أمين بك إلى الأمراء القبليين، فلما بلغ محمد علي باشا ذلك راسل الأمراء القبليين وداهنهم وأرسل لهم الهدايا فراجت أموره عليهم مع ما في صدورهم من الغل المترجم.
وفي أثر ذلك حضر قبطان باشا إلى الإسكندرية ووردت السعاة بخبر وروده وأن بعده واصل باشا والياً على مصر بالعفو عن المصريين، وكان من خبر هذه القضية والسبب في حركة القبطان إرساليات الألفي للإنكليز ومخاطبة الإنكليز الدولة ووزيرها المسمى محمد باشا السلحدار وأصله مملوك السلطان مصطفى ولا يخفى الميل إلى الجنسية فاتفق أنه اختلى بسليمان آغا تابع صالح بك الوكيل الذي كان يوسف باشا الوزير قلده سلحداراً وأرسله إلى إسلامبول وسأله عن المصريين هل بقي منهم غير الألفي فقال له جميع الرؤساء موجودن وعددهم له وهم ومماليكهم يبلغون ألفين وزيادة فقال إني أرى تمليكهم ورجوعهم على شروط نشترطها عليهم أولى من تمادي العداوة بينهم وبين هذا الذي ظهر من العسكر وهو رجل جاهل متحيل وهم لا يسهل بهم إجلاؤهم عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم فيتمادى الحال والحروب بينهم وبينه واحتياج الفريقين إلى جمع العساكر وكثرة النفقات والعلائف والمصاريف فيجمعونها من أي وجه كان ويؤدي ذلك إلى خراب الإقليم فالأولى والمناسب صرف هذا المتغلب وإخراجه وتولية خلافه، فما رأيك في ذلك فقال له سليمان لا رأي عندي في ذلك وخاف أن يكون كلامه له باطناً خلاف الظاهر وأدرك منه ذلك فحلف له عند ذلك الوزير أن كلامه وخطابه له على ظاهره وحقيقته لكن لا بد من مصلحة للخزينة العامرة فقال له سليمان آغا إذا كان كذلك ابعثوا إلى الألفي بإحضار كتخداه محمد آغا لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك ففعل وحضر المذكور في أقرب وقت وتمموا الأمر على مصلحة ألف وخمسمائة كيس كفلها محمد كتخدا المذكور يدفعها لقبطان باشا عند وصوله بيد سليمان آغا المذكور وكفالته أيضاً لمحمد كتخدا بعد إتمام الشروط التي قررها له مخدومه، ومن جملتها إطلاق بيع المماليك وشرائهم وجلب الجلابين لهم إلى مصر كعادتهم فإنهم كانوا منعوا ذلك من نحو ثلاث سنوات وغير ذلك، وسافر كل من سليمان آغا الوكيل ومحمد كتخدا بصحبته قبودان باشا حتى طلعوا على ثغر سكندرية فركب صحبة سلحدار القبودان فتلاقوا مع المترجم بالبحيرة وأعلموه بما حصل فامتلأ فرحاً وسروراً وقال لسليمان آغا اذهب إلى إخواننا بقبلي واعرض عليهم الأمر ولا يخفى أننا الآن ثلاثة فرق كبيرنا إبراهيم بك وجماعته والمرادية وكبيرهم هناك عثمان بك البرديسي وأنا وأتباعي فيكون ما يخص كل طائفة خمسمائة كيس فإذا استلمت منهم الألف كيس ورجعت إلى سلتك الخمسمائة كيس فركب المذكور وذهب إليهم واجتمع بهم وأخبرهم بصورة الواقع وطلب منهم ذلك القدر فقال البرديسي حيث أن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم ويولي الوزراء ويعزلهم بمراده ويتعين قبودان باشا في حاجته فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه لأنه صار الآن هو الكبير ونحن الجميع أتباع له وطوائف خفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه فقال سليمان آغا هو على كل حال واحد منكم وأخوكم، ثم أنه اختلى مع إبراهيم بك الكبير وتكلم معه فقال إبراهيم بك أنا أرضى بدخولي أي بيت كان وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أي من كان من عشيرتنا أولى من هذا الشتات الذي نحن فيه ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف وهذا الذي حصل لنا كله بسوء تدبيره ونحسه وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم كل ذلك حذراً وخوفاً من وقوع الشر والقتل والعداوة إلى أن مات وخلف هؤلاء الجماعة المجانين وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي وداخله الغرور وركن إلى أبناء جنسه وصادفهم واغتربهم وقطع رحمه وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل ولا يستمع لنصح ناصح أولاً وآخراً، وما زال سليمان آغا يتفاوض معهم في ذلك أياماً إلى أن اتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم المترجم بالنصف الثاني فقال سلموني القدر أذهب به وأخبره بما حصل فقالوا حتى ترجع إليه وتعلمه وتطيب خاطره على ذلك لئلا يقبضه، ثم يطالبنا بغيره، فلما رجع إليه وأخبره بما داره بينهم قال أما قولهم أني أكون أميراً عليهم فهذا لا يتصور ولا يصح أني أتعاظم على مثل والدي إبراهيم وعثمان بك حسن ولا على من هو في طبقتي من خشداشيني على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتآمر عليهم واحداً منهم ومن جنسهم، ولك أمر لم يخطر لي ببال وأرضى بأدنى من ذلك ويأخذوا علي عهداً بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته ويسمحوا لي بإقامتي بالجيزة ولا أعارضهم في شيء وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقاً فإنه يكفيني وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك تابعي وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره ومملوكي مملوكهم، وقد قتل لي عدة أمراء ومماليك في الحروب فأفرضه من جملتهم ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا وعلى أن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم بل كنا جميعاً إخواناً وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجاء إلى الإنكليز وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع لهم ورجعوا إلي، ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنكليز فامتثلت ذلك وتجشمت المشاق وخاطرت بنفسي وسافرت إلى بلاد الإنكلترة وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهراً كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم وحصل ما حصل في غيابي ودخلوا مصر من غير قياس وبنوا قصورهم على غير أساس واطمأنوا إلى عدوهم وتعاونوا بع على هلاك صديقهم وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم وأخرجهم من البلدة وأهانهم وشردهم واحتال عليهم ثانياً يوم قطع الخليج فراجت حيلته عليهم أيضاً وأرسلت إليهم فنصحتهم فاستغشوني وخالفوني ودهل الكثير منهم البلد وانحصروا في أزقتها وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع، ولم ينج إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق، ثم أنه الآن أيضاً يرسلهم ويدهنهم ويهاديهم ويصالحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد فارجع إليهم وذكرهم بما سبق لهم من الوقائع فلعلهم ينتبهون من سكراتهم ويرسلون معك الثلثين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك وهذا القدر ليس فيه كبير مشقة فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس وعلى كل كاشف خمسة أكياس وكل جندي أو مملوك كيساً واحداً اجتمع المبلغ وزيادة وأنا أفعل مثل ذلك مع قومي والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس وثمرة المال قضاء مصالح الدنيا وما نحن فيه الآن من أهم المصالح وقل لهم البذار قبل فوات الفرصة والخصم ليس بغافل ولا مهمل والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار، فلما فرغ من كلامه ودعه سليمان آغا ورجع إلى قبلي فوجد الجماعة أصروا على عدم دفع شيء ورجع إبراهيم بك أيضاً إلى قولهم ورأيهم ولما ألقى لهم سليمان آغا العبارات التي قالها صاحبهم وأنه يكون تحت أمرهم ونهيهم ويرضى بأدنى المعاش معهم ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال قالوا هذا والله كله كلام لا أصل له ولا ينسى ثأره وما فعلناه في حقه وحق أتباعه ولو انعزل عنا وسكن قلعة الجبل فهو الألفي الذي شاع ذكره في الآفاق ولا تخاطب الدولة فيره وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتاً من عفاريته فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشئه خلافهم وداخلهم الحقد وزاد في وساوسهم الشيطان فقال لهم سليمان آغا اقضوا شغلكم في هذا الحين حتى تنجلي عنكم الأعداء الأغراب، ثم اقتلوه بعد ذلك وتستريحوا منه فقالوا هيهات بعد أن يظهر علينا فإنه يقتلنا واحداً بعد واحد ويخرجنا إلى البلاد، ثم يرسل يقتلنا وهو بعيد الفكر فلاناً من إليه مطلقاً وغرهم الخصم بتمويهاته وأرسل إليهم هدايا وخيولاً وسروجاً وأقمشة هذا ورسل القبودان تذهب وتأتي بالمخاطبات والعرضحالات حتى تمموا الأمر، كما تقدم. م بأن يكون المتآمر عليهم واحداً منهم ومن جنسهم، ولك أمر لم يخطر لي ببال وأرضى بأدنى من ذلك ويأخذوا علي عهداً بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته ويسمحوا لي بإقامتي بالجيزة ولا أعارضهم في شيء وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقاً فإنه يكفيني وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك تابعي وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره ومملوكي مملوكهم، وقد قتل لي عدة أمراء ومماليك في الحروب فأفرضه من جملتهم ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا وعلى أن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم بل كنا جميعاً إخواناً وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجاء إلى الإنكليز وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع لهم ورجعوا إلي، ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنكليز فامتثلت ذلك وتجشمت المشاق وخاطرت بنفسي وسافرت إلى بلاد الإنكلترة وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهراً كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم وحصل ما حصل في غيابي ودخلوا مصر من غير قياس وبنوا قصورهم على غير أساس واطمأنوا إلى عدوهم وتعاونوا بع على هلاك صديقهم وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم وأخرجهم من البلدة وأهانهم وشردهم واحتال عليهم ثانياً يوم قطع الخليج فراجت حيلته عليهم أيضاً وأرسلت إليهم فنصحتهم فاستغشوني وخالفوني ودهل الكثير منهم البلد وانحصروا في أزقتها وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع، ولم ينج إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق، ثم أنه الآن أيضاً يرسلهم ويدهنهم ويهاديهم ويصالحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد فارجع إليهم وذكرهم بما سبق لهم من الوقائع فلعلهم ينتبهون من سكراتهم ويرسلون معك الثلثين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك وهذا القدر ليس فيه كبير مشقة فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس وعلى كل كاشف خمسة أكياس وكل جندي أو مملوك كيساً واحداً اجتمع المبلغ وزيادة وأنا أفعل مثل ذلك مع قومي والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس وثمرة المال قضاء مصالح الدنيا وما نحن فيه الآن من أهم المصالح وقل لهم البذار قبل فوات الفرصة والخصم ليس بغافل ولا مهمل والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار، فلما فرغ من كلامه ودعه سليمان آغا ورجع إلى قبلي فوجد الجماعة أصروا على عدم دفع شيء ورجع إبراهيم بك أيضاً إلى قولهم ورأيهم ولما ألقى لهم سليمان آغا العبارات التي قالها صاحبهم وأنه يكون تحت أمرهم ونهيهم ويرضى بأدنى المعاش معهم ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال قالوا هذا والله كله كلام لا أصل له ولا ينسى ثأره وما فعلناه في حقه وحق أتباعه ولو انعزل عنا وسكن قلعة الجبل فهو الألفي الذي شاع ذكره في الآفاق ولا تخاطب الدولة فيره وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتاً من عفاريته فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشئه خلافهم وداخلهم الحقد وزاد في وساوسهم الشيطان فقال لهم سليمان آغا اقضوا شغلكم في هذا الحين حتى تنجلي عنكم الأعداء الأغراب، ثم اقتلوه بعد ذلك وتستريحوا منه فقالوا هيهات بعد أن يظهر علينا فإنه يقتلنا واحداً بعد واحد ويخرجنا إلى البلاد، ثم يرسل يقتلنا وهو بعيد الفكر فلاناً من إليه مطلقاً وغرهم الخصم بتمويهاته وأرسل إليهم هدايا وخيولاً وسروجاً وأقمشة هذا ورسل القبودان تذهب وتأتي بالمخاطبات والعرضحالات حتى تمموا الأمر، كما تقدم.
وفي أثناء ذلك، ينتظر القبودان جواباً كافياً وسلحداره مقيم أيضاً عند المترجم والمترجم يشاغل القبودان بالهدايا والأغنام والذخيرة من الأرز والغلال والسمن والعسل، وغير ذلك إلى أن رجع إليه سليمان آغا بخفي حنين محزوناً مهموماً متحيراً فيما وقع فيه من الورطة مكسوف البال مع القبودان ووزير الدولة وكيف يكون جوابه للمذكور والقبودان جعل في الإبرة خيطين ليتبع الأروج، فلما وصل إليه سليمان آغا وأخبره أن الجماعة القبليين لا راحة عندهم وامتنعوا من الدفع ومن الحضور وأن المترجم يقوم بدفع القدر الذي يقدر عليه والذي يبقى ويتجمع عليه يقوم بدفعه فاغتاظ القبودان وقال أنت تضحك على ذقني وذقن وزير الدولة وقد تحركت الحركة على ظن أن الجماعة على قلب رجل واحد وإذا حصل من المالك للبلدة عصيان ومخالفة، ولم يكن فيهم مكافأة لمقاومته ساعدناهم بجيش من النظام الجديد وغيره وحيث أنهم متنافرون ومتحاسدون ومبخضون فلا خير فيهم وصاحبك هذا لا يكفي في المقاومة وحده ويحتاج إلى كثير. ولما ظهر لسليمان آغا الغيظ والتغير من القبودان خاف على نفسه أن يبطش به وعرف منه أن المانع له من ذلك غياب السلحدار عند المترجم لأنه قال له وأين سلحداري قال هو عند الألفي بالبحيرة فقال اذهب فأتني به وأحضر صحبته وكان موسى باشا المتولي قد حضر أيضاً فما صدق سليمان آغا بقوله ذلك وخلاصه من بين يديه فركب في الوقت وخرج من الإسكندرية فما هو إلا بعد عنها مقدار غلوة إلا والسلحدار قادم إلى سكندرية فسأله إلى أين يذهب فقال إن مخدومك أرسلني في شغل وها أنا راجع إليكم وذهب عند المترجم ولم يرجع.
وفي أثناء هذه الأيام، كان المترجم يحارب دمنهور وبعث إليه محمد علي باشا التجريدة العظيمة التي بذل فيها جهده وفيها جميع عساكر الدلاة وطاهر باشا ومن معه من عساكر الأرنؤد والأتراك وعسكر المغاربة فحاربهم وكسرهم وهزمهم شر هزيمة حتى ألقوا بأنفسهم في البحر ورجعوا في أسوأ حال فلو تجاسر المترجم وتبعهم لهرب الباقون من البلدة وخرجوا جميعاً على وجوههم من شدة ما داخلهم من الرعب ولكن لم يرد الله ذلك، ولم يجسروا للخروج عليه بعد ذلك.
وما تنحت عنه عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر سكندرية على الصورة المذكورة استأنف المترجم أمراً آخر وراسل الإنكليز يلتمس منهم المساعدة وأن يرسلوا له طائفة من جنودهم ليقوى بهم على محاربة الخصم، كما التمس منهم في العام الماضي فاعتذروا له بأنهم صلح مع العثماني وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحاً أن يتعدوا على المتصادقين معهم ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم فغاية ما يكون المكالمة والترجي، ففعلوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر، فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع الغرة بينهم وبين العثماني فأرسلوا إلى المارجم يعدون بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور، وكان ذلك أوان القيظ وليس، ثم زرع ولا نبات فضاقت على جيوشهم الناحية وقد طال انتظاره للإنكليز فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد وفي كل حين يعدهم بالفرج ويقول لهم اصبروا ولم يبق إلا القليل فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له، إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة وإما أن تأذنلنا في الرحيل في طلب القوت فما وسعه إلا الرحيل مكظوماً مقهوراً من معاندة الدهر في بلوغ المآرب الأول مجيء القبودان وموسى باشا عل هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طائل الثاني عدم ملكه دمنهور وكان قصده أن يجعلها معقلاً ويقيم بها حتى تأتيه النجدة الثالث تأخر مجيء النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل الرابع وهو أعظمها مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام إليه فارتحل من البحيرة بجيوشه ومن يصحبه من العربان حتى وصل إلى الأخصاص فنادى محمد علي باشا على العساكر بالخروج ولا يتأخر منهم واحد فخرجوا ليلاً ونهاراً حتى وصلوا إلى ساحل بولاق وعدوا إلى بر أنبابة وجيشوا بظاهرها وقد وصل المترجم إلى كفر حكيم يوم الثلاثاء ثامن عشر القعدة وانتشرت جيوشه بالبر الغربي ناحية أنبابة والجيزة وركب الباشا وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم واصطفت الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم ومر المترجم في هيئة عظيمة هائلة وجيوش تسد الفضاء وهم مرتبون طوابير ومعهم طبول وصحبته قبائل العرب من أولاد علي والهنادي وعربان الشرق في كبكة وزائدة والباشا والعسكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد وهو يتعجب ويقول هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون، ثم يقول للدلاة والخيالة تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال ويذكر لهم مقادير عظيمة ويرغبهم، فلم يتجاسروا على الإقدام وصاروا باهتين ومتعجبين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم وقد أصابوه بأعينهم، ولم يزل سائراً حتى وصل إلى قريب قناطر شبرامنت فنزل علي علوة هناك وجلس عليها وزاد به الهاجس والقهر ونظر إلى جهة مصر وقال يا مصر انظري إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين واستوطنك أجلاف الأتراك واليهود وأراذل الأرنؤد وصاروا يقبضون خراجك ويحاربون أولادك ويقاتلون أبطالك ويقاومون فرسانك ويهدمون دورك ويسكنون قصورك ويفسقون بولدانك وحورك ويطمسون بهجتك ونورك، ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله وقد تحرك به خلط دموي وفي الحال تقايا دماً وقال قضي الأمر وخلصت مصر لمحمد علي وما ثم من ينازعه ويغالبه وجرى حكمه على المماليك المصرية، فما أظن أن تقوم لهم راية بعد اليوم، ثم إنه أحضر أمراءه وأمر عليهم شاهين بك وأوصاه بخشداشينه وأوصاهم به وأن يحرصوا على دوام الألفة بينهم وترك التنازع الموجب للتفرق والتفاشل وأن يحذروا من مخادعة عدوهم وأوصاهم أنه إذا مات يحملونه إلى وادي البهنا ويدفنونه بجوار قبور الشهداء، فمات في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء تاسع عشر ذي القعدة، فلما مات غطوه وكفنوه وصلوا عليه وحملوه على بعير وأرسلوه إلى البهنا ودفنوه هناك بجوار الشهداء وانقضى نحبه فسبحان من له سرمدية البقاء وفي الحال حضر المبشر إلى محمد علي باشا وبشره بموت المترجم، فلم يصدقه واستغرب ذلك وحبس البدوي الذي أتاه بالبشارة أربعة أيام وذلك لأن أتباعه كانوا كتموا أمر موته ولم يذيعوه في عرضيه والذي أشاع الخبر وأتى بالبشارة رفيق البدوي الذي حمله على بعيره ولما ثبت موته عند الباشا امتلأ فرحاً وسروراً وكذلك خاصته ورفعوا رؤسهم وأحضر ذلك المبشر فألبسه فروة سمور وأعطاه مالاً وأمره أن يركب بتلك الخلعة ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة وشاع ذلك الخبر في الناس من وقت حضور المبشر وهم يكذبون ذلك الخبر ويقولن هذا من جملة تحيلاته فإنه لما سافر إلى بلاد الإنكليز لم يعلم بسفره أحد ولم يظهر سفره إلا بعد مضي أشهر فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين حتى قويت عندهم القرائن بما حصل بعد ذلك فإنه لما مات تفرقت قبائل العربان التي كانت مجتمعة حوله وبعضهم أرسل يطلب أماناً من الباشا وغير ذلك مما تقدم ذكره وخبره في ضمن ما تقدم وكان محمد علي باشا يقول ما دام هذا الألفي موجوداً لا يهنأ لي عيش ومثال أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل لكن هو في رجليه قبقاب، فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك الآن طابت لي مصر وما عدت أحسب لغيره حساباً. ورفعوا رؤسهم وأحضر ذلك المبشر فألبسه فروة سمور وأعطاه مالاً وأمره أن يركب بتلك الخلعة ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة وشاع ذلك الخبر في الناس من وقت حضور المبشر وهم يكذبون ذلك الخبر ويقولن هذا من جملة تحيلاته فإنه لما سافر إلى بلاد الإنكليز لم يعلم بسفره أحد ولم يظهر سفره إلا بعد مضي أشهر فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين حتى قويت عندهم القرائن بما حصل بعد ذلك فإنه لما مات تفرقت قبائل العربان التي كانت مجتمعة حوله وبعضهم أرسل يطلب أماناً من الباشا وغير ذلك مما تقدم ذكره وخبره في ضمن ما تقدم وكان محمد علي باشا يقول ما دام هذا الألفي موجوداً لا يهنأ لي عيش ومثال أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل لكن هو في رجليه قبقاب، فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك الآن طابت لي مصر وما عدت أحسب لغيره حساباً.
وكان المترجم أميراً جليلاً مهيباً محتشماً مدبراً بعيد الفكر في عواقب الأمور صحيح الفراسة إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه قوي الشكيمة صعب المراس عظيم البأس ذا غيرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه يحب علو الهمة في كل شيء حتى أن التجار الذين يعاملهم في المشتروات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها بل يكتبون الأثمان بأنفسهم كما يحبون ويريدون في قوائمهم ويأخذها الكاتب ليعرضها عليه فيمضي عليها ولا ينظر فيها ويرى أن النظر في مثل ذلك أو المحاققة فيه عيب ونقض يخل بالأمرية ولا تمضي السنة إلا والجميع قد استوفوا حقوقهم ويستأنفوا احتياجات العام الجديد ولذلك راج حال المعاملين له رواجاً عظيماً لكثرة ربحهم عليه ومحاسبهم ومع ذلك يواسيهم في جملة أحبابه والمنتسبين إليه بإرسال الغلال لمؤونة بيوتهم وعيالهم وكساوى العيد وينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه ويجب لهم رفعة القدر عن غيرهم مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخل بالمروءة عنفه وزجره فترى كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم وصعوبتهم يخافونه خوفاً شديداً ويهابون خطابه.
ومن عجيب أمره ومناقبه التي انفرد بها عن غيره امتثال جميع قبائل العربان الكائنين بالقطر المصري لأمره وتسخيرهم وطاعتهم له لا يخالفونه في شيء وكان له معهم سياسة غريبة ومعرفة بأحوالهم وطبائعهم فكأنما هو مربي فيهم أو ابن خليفتهم أو صاحب رسالتهم يقومون ويقعدون لأمره مع أنه يصادرهم في أموالهم وجمالهم ومواشيهم ويحبسهم ويطلقهم ويقتل منهم ومع ذلك لا ينفرون منه وقد تزوج كثيراً من بناتهم فالتي تعجبه يبقيها حتى يقضي وطره منها والتي لا توافق مزاجه يسرحها إلى أهلها، ولم يبق في عصمته غير واحدة وهي التي أعجبته فمات عنها، فلما بلغ العرب موته اجتمعت بنات العرب وصرن يندبنه بكلام عجيب تناقلته أرباب المغاني يغنون به على آلات اللهو المطربة وركبوا عليه أدواراً وقوافي وغير ذلك والعجب منه رحمه الله أنه لما كان في دولتهم السابقة وينزل في كل سنة إلى شرقية بلبيس ويتحكم في عربانها ويسومهم العذاب بالقبض عليهم ووضعهم في الزناجير ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر ويأخذ منهم الأموال والخيول والأباعر والأغنام ويفرض عليهم الفرض الزائدة ويمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد، ثم إنه لما رجع من بلاد الإنكليز وتعصب عليه البرديسي والعسكر وأحاطوا به من كل جانب فاختفى منهم وهرب إلى الوادي عند عشيبة البدوي فآواه وأخفاه وكتم أمره والبرديسي ومن معه يبالغون في الفحص والتفتيش وبذل الأموال والرغائب لمن يدل عليه أو يأتي به، فلم يطمعوا في شيء من ذلك، ولم يفشوا سره وقيدوا بالطرق الموصلة له أنفاراً منهم تحرس الطريق من طارق يأتي على حين غفلة وهذا من العجائب حتى كان كثير من الناس يقولون أنه يسخرهم أو معه سر يسخرهم به، فلما مات تفرق الجميع ولم يجتمعوا على أحد بعده وذهبوا إلى أماكنهم وبعضهم طلب من الباشا الأمان وأما مماليكه وأتباعه فلم يفلحوا بعده وذهبوا إلى الأمراء القبليين فوجدوا طباعهم متنافرة عنهم، ولم يحصل بينهم التئام ولا صفا كدر الفريقين من الآخر فانعزلوا عنهم إلى أن جرى ما جرى من صلحهم مع الباشا وأوقع بهم ما سيتلى عليك بعد أن شاء الله تعالى وبعد موت المترجم بنحو الأربعين يوماً وصلت نجدة الإنكليز إلى ثغر الإسكندرية وطلعوا إليه فبلغهم عند ذلك موت المذكور، فلم يسهل بهم الرجوع فأرسلوا رسلهم إلى الجماعة المصريين ظانين أن فيهم أثر الهمة والنخوة يطلبونهم للحضور ويساعدهم الإنكليز على ردهم لمملكتهم وأوطانهم وكان محمد علي باشا حين ذاك بناحية قبلي يحاربهم فطلبهم للصلح معه وأرسل إليهم بعض فقهاء الأزهر وخادعهم وثبطهم فقعدوا عن الحركة وجرى ما جرى على طائفة الإنكليز، كما سيتلى عليك خبره، ثم عليهم بعد ذلك وكان أمر الله مفعولا.
وكان للمترجم ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصاً العلوم الغريبة مثل الجفريات والجغرافيا والأسطرنوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية وما تدل عليه من الحوادث الكونية ويعرف أيضاً مواضع المنازل وأسماءها وطبائعها والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة منضلع وناقشه مناقشة متطلع وله أيضاً معرفة بالأشكال الرملية واستخراجات الضمائر بالقواعد الحرفية، وكان له في ذلك إصابات ومنها ما أخبرني به بعض أتباعه أنه لما وصل إلى ثغر سكندرية راجعاً من بلاد الإنكليز رسم شكلاً وتأمل فيه وقطب وجهه، ثم قال إني أرى حادثاً في طريقنا وربما أني أفترق منكم وأغيب عنكم نحو أربعين يوماً، فلذلك أحب أن يخفي أمره ويأتي على حين غفلة وكان البرديسي قد أقام بالثغر رقيباً يوصل خبر وروده، فلما وصل أرسل ذلك الرقيب ساعياً في الحال، وكان ما ذكرناه في سياق التاريخ بشتك بك من القصر وإرسال العسكر لملاقاة المترجم على حين غفلة ليقتلوه وهروبه واختفاؤه، ثم ظهوره واجتماعهم عليه بعد انقضاء تلك المدة أو قريب منها، وكان رحمه الله إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها فإن رأى فيه فائدة أو مزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه، وكان له مع جلسائه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون وكان غالب إقامته بقصوره التي عمرها خارج مصر وهو القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطئ النيل والقصر الآخر الكائن بالقرب من زاوية الدمرداش والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري، وكان إذا خرج من داره لبعض تلك القصور لا يمر من وسط المدينة وإذا رجع كذلك فسئل عن سبب ذلك فقال أستحي أن أمر من وسط الأسواق وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إلي وأفرجهم على نفسي.
وللمترجم أخبار وسير ووقائع لو سطرت لكانت سيرة مستقلة خصوصاً وقائعه وسياحته ثلاث سنوات وثلاثة أشهر أيام أقام الفرنساوية بالقطر المصري ورحلته بعد ذلك إلى بلاد الإنكليز وغيابه بها سنة وشهوراً، وقد تهذبت أخلاقه بما اطلع عليه من عمارة بلادهم وحسن سياسة أحكامهم وكثرة أموالهم ورفاهيتهم وصنائعهم وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم بحيث لا يوجد فيهم فقير ولا مسجد ولا ذو فاقة ولا محتاج وقد أهدوا له هدايا وجواهر وآلات فلكية وأشكال هندسية واسطرلابات وكرات ونظارات وفيها ما إذا نظر الإنسان فيها في الظلمة يرى أعيان لأشكال، كما يراها في النور ومنها لخصوص النظر في الكواكب فيرى بها الإنسان الكوكب الصغير عظيم الجرم وحوله عدة كواكب لا تدرك بالبصر الحديد ومن أنواع الأسلحة الحربية أشكال تدور بحركات فيظهر منها أصوات مطربة على إيقاع الأنغام وضروب الألحان وبها نشانات وعلامات لتبديل الأنغام بحسب ما يشتهي السامع إلى غير ذلك نهب ذلك جميعه العسكر الذين أرسلهم إليه البرديسي ليقتلوه وطفقوا يبيعونه في أسواق البلدة وأغلبه تكسر وتلف وتبدد.
وأخبرني بعض من خرج لملاقاته عند منوف العليا أنه لما طلع إليها وقابله سليمان بك البواب أخلى له الحمام في تلك الليلة وكان قد بلغه كافة أفعاله بالمنوفية من العسف والتكاليف وكذا باقي إخوانه وأفعالهم بالأقاليم فكان مسامرتهم معه تلك الليلة في ذكر العدالة الموجبة لعمار البلاد ويقول لسليمان بك في التمثيل الإنسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسمنها وجبنها يلزمه أن يرفق بها في العلف حتى تدر وتسمن وتنتج له النتاج بخلاف ما إذا أجاعها وأجحفها وأتعبها وأشقاها وأضعفها حتى إذا ذبحها لا يجد بها لحماً ولا دهناً فقال هذا ما اعتدناه وربينا عليه فقال إن أعطاني الله سيادة مصر والإمارة في هذا القطر لأمنعن هذه الوقائع وأجري فيه العدل ليكثر خيره وتعمر بلاده وترتاح أهله ويكون أحسن بلاد الله ولكن الإقليم المصري ليس له بخت ولا سعد وأهله تراهم مختلفين في الأجناس متنافوي القلوب منحرفي الطباع، فلم يمض على هذا الكلام إلا بقية الليل وساعات النهار حتى أحاطوا به وفر هارباً ونجا بنفسه وجرى ما تقدم ذكره من اختفائه وظهوره وانتقاله إلى الجهة القبلية واجتماع الجيوش عليه وحكمت عليه الصورة التسي ظهر فيها وحصل له ما حصل.
وأخبرني من اجتمع عليه في البحيرة وسامره فقال يا فلان والله يخيل لي أن أقتل نفسي ولكن لا تهون علي وقد صرت الآن واحداً بين ألوف من من الأعداء وهؤلاء قومي وعشيرتي فعلوا بي ما فعلوا وتجنبوني وعاودني من غير جرم ولا ذنب سبق مني في حقهم وأشقوني وأشقوا أنفسهم وملكوا البلاد لأعدائي وأعدائهم وسعيت واجتهدت في مراضاتهم ومصالحتهم والنصح لهم، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً وتباعداً عني، ثم هذه الجنود ورئيسهم الذين ولجوا البلاد وذاقوا حلاوتها وشبعوا بعد جوعهم وترفهوا بعد ذلهم يجيشون علي ويحاربوني ويكيدوني ويقاتلوني، ثم أن هؤلاء العربان المجتمعين علي أصانعهم وأسوسهم وآغاضبهم وأراضيهم وكذلك جندي ومماليكي وكل منهم يطلب مني رياسة وإماؤة ويظنون بغفلتهم أن البلاد تحت حكمي ويظنون أني مقصر في حقهم فتارة أعاملهم باللطف وتارة أزجرهم بالعنف فأنا بين الكل مثل الفريسة والجميع حولي مثل الكلاب الجياع يريدون نهشي وأكلي وليس بيدي كنوز قورن فأنفق على هؤلاء الجموع منها فيضطرني الحال إلى التعدي على عبد الله وأخذ أموالهم وأكل مزارعهم ومواشيهم فإن قدر الله لي بالظفر عوضت عليهم ذلك ورفقت بحالهم وإن كانت الأخرى فالله يلطف بنا وبهم ولا بد أن يترحموا علينا ويسترضوا عن ظلمنا وجورنا بالنسبة لما يحل بهم بعدنا.
وبالجملة فكان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة ونظراً في عوافب الأمور، وكان وحيداً في نفسه فريداً في أبناء جنسه وبموته اضمحلت دولتهم وتفرقت جمعيتهم وانكسرت شوكتهم وزادت نفرتهم، وما زالوا في نقص وإدبار وذلة وهوان وصغار، ولم تقم لهم بعده راية وانفرضوا وطردوا إلى أقصى البلاد في النهاية.
وأما مماليكه وصناجقه فإنهم تركوا نصيحته ونسوا وصيته وانضموا إلى عدوهم وصادقوه، ولم يزل بهم حتى قتلهم وأبادهم عن آخرهم، كما سيتلى عليك خبر ذلك فيما بعد.
وكانت صفة المترجم معتدل القامة أبيض اللون مشرباً بحمره جميل الصورة مدور اللحية أشقر الشعر وقد خطه الشيب مليح العينين مقرون الحاجبين معجباً بنفسه مترفهاً في زيه وملبسه كثيراً الفكر كتوماً لا يبيح بسر ولا لأعز أحبابه إلا أنه لم يسعفه الدهر وجنى عليه بالقهر وخاب أمله وانقضى أجله وخانه الزمان وذهب في خبر كان، ومات وله من العمر نحو الخمسة والخمسين سنة غفر الله له.
ومات الأمير عثمان بك البرديسي المرادي وسمي البرديسي لأنه تولى كشوفية برديس بقبلي فعرف بذلك واشتهر به تقلد الأمرية والصنجقية في سنة عشر ومائتين وألف وتزوج ببنت أحمد كتخدا علي وهي أخت علي كاشف الشرقية وعمل لها مهما وذلك قبل أن يتقلد الصنجقية وسكن بدار علي كتخدا الطويل بالأزبكية واشتهر ذكره وصار معدوداً من جملة الأمراء ولما قتل عثمان بك البرديسي المرادي بساحل أبو قير ورجع من رجع إلى قبلي كان الألفي إلى بلاد الإنكليز تعين المترجم بالرياسة على خشدشينه مع مشاركة بشنك بك الذي عرف بالألفي الصغير، فلما حضروا إلى مصر في سنة ثمان عشرة بعد خروج محمد باشا خسرو وقتل طاهر باشا انضم إليه محمد علي باشا وكان إذ ذاك سرششمة العساكر وتواخى معه وصادقه ورمح في ميدان غفلته وتحالفا وتعاهدا على المحبة والمصافاة وعدم خيانة أحدهما للآخر وأن يكون محمد علي باشا وعساكره الأروام أتباعاً له وهو الأمير المتبوع فانتفخ جأشه لأنه كان طائش العقل مقتبل الشبيبة فاغتر بظاهر محمد علي باشا لأنه حين عمل شغله في مخدومه محمد باشا وبعده طاهر باشا دعا الأمراء المصريين وأدخلهم إلى مصر وانتسب إلى إبراهيم بك الكبير لكونه رئيس القوم وكبيرهم وعين لإبراهيم بك خرجاً وعلوفة مثل أتباعه وسبره واختبره، فلم ترج سلعته عليه ووجده حريصاً على دوام التراحم والألفة والمحبة وعدم التفاشل في عشيرته وأبناء جنسه متحرزاً من وقوع ما يوجب التقاطع والتنافر في قبيلته، فلما أيس منه مال عنه وانضم إلى المترجم واستخفه واحتوى على عقله وصاحبه وصادقه وصار يختلي معه ويتعاقر معه الشراب ويسامره ويسايره حتى باح له بما في ضميره من الحقد لإخوانه وتطلب الانفراد بالرياسة فصار يقوي عزمه ويزيد في إغرائه ويعده بالمعاونة والمساعدة على إتمام قصده، ولم يزل به حتى رسخ في ذهن المترجم نصحه وصدقه كل ذلك توصلاً لما هو كامن في نفسه من إهلاك الجميع، ثم أشار عليه ببناء أبراج حول داره التي سكن بها بالناصرية، فلما أتمها أسكن بها طائفة من عساكره كأنهم محافظون لما عساه أن يكون ثم، سار معه إلى حرب محمد باشا خسرو بدمياط فحاربوه وأتوا به أسيراً وحبسوه، ثم فعلوا بالسيد علي القبطان مثل ذلك، ثم كائنة علي باشا الطرابلسي وقتله، وقد تقدم خبر ذلك كله وجميعه ينسب فعله للمصريين ولم يبق الإيقاع بينهم فكان وصول الألفي عقب ذلك فأوقعوا به وبجنده ما تقدم ذكره وتفاشلوا وتفرقوا بعد جمعهم وقلوا بعد الكثرة، ثم أشار على المترجم المصادق الناصح بتفريق أكثر الجمع الباقي في النواحي والجهات البعض منهم لرصد الألفي والقبض عليه وعلى جنده والبعض الآخر لظلم الفلاحين في البلاد، ولم يبق بالمدينة غير المترجم وإبراهيم بك الكبير وبعض أمراء، فعند ذلك سلط محمد علي العساكر بطلب علائفهم المنكسرة فعجزوا عنها فأراد المترجم أن يفرض على فقراء البلدة فرضة بعد أن استشار الأخ النصوح وطافت الكتاب في الحارات والأزقة يكتبون أسماء الناس ودورهم ففزعوا وصرخوا في وجوه العسكر فقالوا نحن ليس لنا عندكم شيء ولا نرضى بذلك وعلائفنا عند أمرائكم، ونحن مساعدون لكم فعند ذلك قاموا على ساق وخرجت نساء الحارات وبأيديهم الدفوف يغنون ويقولون إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي وصاروا يسخطون على المصريين ويترضون عن العسكر وفي الحال أحاطت العسكر ببيوت الأمراء، ولم يشعر البرديسي إلا والعسكر الذين أقامهم بالأبراج لتي بناها حوله ليكونوا له عزاً ومنعة يضربون عليه ويحاربونه ويريدون قتله وتسلقوا عليه، فلم يسع الجميع إلا الهروب والفرار وخرجوا خروج الضب من الوجار، وذهب المترجم إلى الصعيد مذؤماً مدحوراً مذموماً مطروداً وجوزي مجازاة من ينتصر بعدوه ويعول عليه ويقص أجنحته برجليه وكالباحث على حتفه بظلفه والجادع بظفره مأرن أنفه، ولم يزل في هجاج وحروب، كما سطر في السياق، ولم ينتصر في معركة، ولم يزل مصراً على معاداة أخيه الألفي وحاقداً عليه وعلى أتباعه حريصاً على زلاته وأعظمها قضية القبودان وموسى باشا إلى غير ذلك وكان ظالماً غشوماً طائشاً سيئ التدبير، وقد أوجده الله جل جلاله وجعله سبباً لزوال عزهم ودولتهم واختلال أمرهم وخراب دورهم وهتك أعراضهم ومذاتهم وتشتيت جمعهم، ولم يزل خبثه مرض ومات بمنفلوط ودفن هناك.
ومات الأمير بشتك بك وهو الملقب بالألفي الصغير وهو مملوك محمد بك الألفي الكبير أمره وجعله وكيلاً عنه مدة غيابه في بلاد الإنكليز، وكان قبل ذلك سلحداره وأمر كشافه ومماليكه وجنده بطاعته وامتثال أمره، فلما حضر الأمراء المصريون في سنة ثمان عشرة أقام هو بقصر مراد بك بالجيزة فلم يحسن السياسة وداخله الغرور وأعجب بنفسه وشمخ على نظراته وعلى أعمامه الذين هم خشداشون لأستاذه وعلى إبراهيم بك الكبير الذي هو بمنزلة جده وكان مراد بك الذي هو أستاذ أستاذه يراعي حقه ويتأدب معه ويقبل يده في مثل الأعياد ويقول هو أميرنا وكبيرنا وكذلك أستاذ المترجم كان إذا دخل على إبراهيم بك قبل يده ولا يجلس بحضرته إلا بعد أن يأذن له، فلم يقتف المترجم في ذلك أسلافه بل سلك مسلك التعاظم والتكبر على الجميع واستعمل العسف في أموره مع الترفع على الجميع وإذا عقدوا أمراً بدونه حله أو حلوا شيئاً بدونه عقده فضاق لذلك خناق الجميع منه وكرهوه وكرهوا أستاذه، وكان هو من جملة أسباب نفورهم من أستاذه وانحراف قلوبهم عنه، فلما رجع أستاذه وظهر من اختفائه وبلغه أفعاله مقته وأبعده، ولم يزل ممقوتاً عنده حتى مات مبطوناً في حياة أستاذه بناحية قبلي في تلك السنة.
ومات غير هؤلاء ممن له ذكر مثل سليمان بك المعروف بأبو دياب بناحية قبلي أيضاً ومات أيضاً أحمد بك المعروف بالهنداوي الألفي في واقعة النجيلة ومات أيضاً صالح بك الألفي وهو أيضاً من تامر في غياب أستاذه من بلاد الإنكليز كان هو متولياً كشوفية الشرقية وغائباً هناك فأرسلوا له تجريدة ليقتلوه وكان بناحية شلشلمون فوصله الخبر فترك خيامه وأحماله وأثقاله وهرب واختفى، فلما وقعت حادثة الأمراء مع العسكر وخرجوا من مصر هاربين وظهر الألأفي من الوادي ذهب إليه وأمده بما معه من الأموال وذهب مع أستاذه إلى قبلي، ولم يزل حتى مات أيضاً في هذه السنة وغير أولئك كثير لم تحضرني أسماؤهم ولا وفاتهم.